الاثنين، 21 ديسمبر 2009

من أسرار بسم الله الرحمن الرحيم


((‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) و ماذا نقول بعد أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم و نحن نقرأ القرآن الكريم.
إننا نقول بعد ذلك (( بسم الله الرحمن الرحيم)) لأن القرآن قد بدأ مفردا باسم الله .. فعندما نزل جبريل عليه السلام على رسول الله أول مرة في الغار ..قال له: اقرأ و معنى اقرأ هو أمر بأن يكون الإنسان حافظا لكلام يقرؤه أو أن يكون أمامه مكتوب ليقرأه.. و رسول الله لم يكن عنده محفوظ أو مكتوب..فلا يعرف القراءة و لا هو يعرف الكتابة فقال الرسول الكريم لجبريل : -ما أنا بقارئ .. و كان الرسول منطقيا مع نفسه و كان الحق تبارك و تعالى قد جعل جبريل قادرا على أن يحمل الرسالة التي يعلمها لرسول الله محمد.. و كان هذا الترتيب في الحوار بين جبريل عليه والسلام و رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما أراد به أن يرد على خصوم الإسلام فيما بعد انتشار الإسلام بعد أربعة عشر قرنا... فقد قال بعض المستشرقين من أعداء دين الله : إن القرآن ليست إلا وسوسات و أحاديث نفس دارت في أعماق نفس محمد أراد الخالق الأكرم أن يوضح لنا أن ذاتية محمد تعرف حدودها و ذاتية الملك جبريل تعرف القدرات التي وهبها الله لها و هي تحمل الرسالة إلى الرسول الكريم .. قال جبريل رسول الله : - اقرأ فيرد رسول الله : - ما أنا بقارئ إن ذلك الحوار يدلنا على أن جبريل الملك قد امتلك قدرة أمر الله لرسول بالقراءة . و لأن رسول الله لم يكن يعرف من أمر بعثة كرسول شيئاً .. و يعرف موقعه من الأمية ,,لذلك قال ( ما أنا بقارئ)
إذن... فشخصية الملك جبريل الحامل للرسالة الربانية تتضح بأنه يحمل أمراً علوياً ممن لا يستعصي عليه سبب- إلى شخصية منطقية تعرف صفاتها العادية.. هكذا نرى أمام الشخصيتين كلتاهما تعرف حدود القدرات و قدرة الله المطلقة التي لا تقف أمامها قيود و لا حدود.. و قدرة الرسول التي يعرفها عن نفسه. و يتابع جبريل حمل الأمر الإلهي لرسول الله . ((‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, ‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏, ‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏, ‏الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ , عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) هكذا نعرف آفاق من يعلم الرسول القراءة إنه يتعلم القراءة باسم الله القادر على خلق الإنسان من عدم القادر على أن يجعل محمداً رسولاً القادر على أن يعلمه ما لم يتعلمه بشر و لم يتعلمه محمد من البشر. هكذا نتعرف على أن الرسول تعرف في ذلك اللقاء على أنه يتلقى وحياً من الذي لا حدود لقدرته فيقول له الحق بلسان جبريل: -اقرأ باسم ربك الذي خلق إن التعلم الآن هم من لدن من في استطاعته أن يقول كن فيكون..
و هكذا كان القرآن مبتدأ باسم الله.. و لذلك فنحن نتلوه باسم الله و لهذا فإن ((بسم الله الرحمن الرحيم)) علينا أن نأخذها من زاويتين : الزاوية الأولى هي زاوية نلحظها في لغة البشر فإذا تكلم إنسان في أمر من الأمور إلى الإنسان الآخر, يريد إقناعه بذلك الأمر بأن ينفذه..فإن الإنسان الذي يتلقى الأمر يتساءل: - باسم من تتكلم أنت معي؟ فقد يقول الإنسان صاحب الرأي الذي يريد أن يقنع به من أمامه: - أنا أتكلم باسم الحاكم أو باسم وكيل النيابة. إذن هناك صفة ما يحملها الإنسان صاحب الرأي ليقنع آخر بأن ينفذ ما يقوله له... فإذا اقتنع الإنسان بمكانه الرأي و بتقدير من أرسل هذا الرأي إليه فإن الإنسان يسلم بما اقتنع به.
فما بالنا بالقرآن المنزل من عند الله .. منحنا الكون كله و استخلفنا الله فيه.. فأصبح الإنسان خليفة الله في الأرض.. الفلاح- على سبيل المثال- لم يخلق الأرض و لا يعرف غالبا عدد العناصر التي فيها. و البذور – التي يضعها في الأرض غير مخلوقة بواسطة الفلاح, و المياه التي تنزل من السماء أو تجري في الأنهار.. تعطي الفلاح الفرصة ليزرع.. هذا الفلاح يضيف عمله إلى الأرض بالحراثه.. و يضع البذور في الأرض و يروي النبات في مواعيد محدده.. فيعطيه الله الرزق الوفير. لماذا؟ لأنه أقبل على المادة المخلوقة له باسم الله ..و استقبل الخير شاكراً لله.. و بدأ عمله باسم الله.. إن الفلاح حين يبدأ عمله باسم الله فإنه يعرف أن طاقته ممنوحة له من الله, و الأرض ممنوحة له من الله ..و البذور ممنوحة له من الله .. و النبات هو حصاد جهد الطاقة التي منحها الله في الأرض التي خلقها الله. إن الإنسان عموماً إذا أقبل على أي عمل من الأعمال فعليه أن يتساءل: ما الذي يجعل هذا العمل ينفعل لي؟ لا طاقة تجعل عملا من الأعمال تنفعل للإنسان إلا بإرادة الله.. لذلك فعندما يقول الإنسان: إنني أفعل ذلك باسم الله الذي سخر لي كل ما حولي لأقوم بذلك العمل..فإن الله يسخر الإنسان و يسهل له القيام بالعمل.. يسخر له ما ليس لقدرته عليه سلطان. و لا يدخل في استطاعته الإنسان السيطرة عليه.. إن اسم الله الذي يفتتح به المؤمن أي عمل هو إيمان متجرد و يقين حي, يحقق السيادة للإنسان باسم من استخلفه في الأرض... فليس في استطاعته أحد أن يجعل الشمس تشرق و لا في استطاعة أحد أن يظهر لنا القمر في غير ميعاد.. و لا أحد يستطيع أن يتحكم حتى حركته أو جسده إلا بالروح التي نفخها الله فيه. فإذا ما استقبل الإنسان كل عمل و كل حركة بقول ((‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ) فإن المنافع تعود على الإنسان ببركة هذا الاسم الذي خلق الكون و سخره للإنسان. ما الفرق بين أن يقول الإنسان المؤمن ((‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) في بداية كل عمل.. و بين الكافر الذي لا يقول باسم الله .. و مع ذلك فالأعمال أيضا تعطي ثمارها للكافر و المؤمن سواء.. الإجابة هي : إن الفرق بين المؤمن و الكافر...فرق واضح إن المؤمن يثق بأن الله سخر له العمل .. فيطمئن و هو يؤدي العمل.. إن المؤمن يعمل و في باله الاطمئنان .. و الإحساس الأمان و أن الخير لا يجيء في الدنيا و حدها .. إن الخير يجيء في الدنيا و يثاب عليه المرء في الآخرة .. أما الكافر فقد يقوم بالعمل و قد بفشل فيه..و يرث القلق على العمل و لا يأتيه الثواب على العمل في الآخرة.. لذلك فنحن أيضا عندما نحمد الله بعد العمل.. فإننا نؤكد الصلة و الثقة بأن الله هو الذي أعطانا فلا يدخلنا غرور أو زهو..إنما يحس الإنسان بفضل الله.. إذن.. فعندما يفعل المؤمن أي شيء بـــ ( بسم الله الرحمن الرحيم) فهذا يعني أن المؤمن يدخل على العمل لا حول ولا قوة له..إنما يدخل على العمل المسخر له باسم الله .. و لو لم يسخر الله هذا العمل للمؤمن لما استطاع المؤمن أن يتفاعل مع عمله في بإتقان و لم أعطاه الله من خير علمه بجزاء في الدنيا و بجزاء الآخرة .
و لقد قلت من قبل...إن الأنعام التي سخرها الله لنا عندما نتأمل رحلة استئناسها, نجد العجب ..الإنسان استأنس الجمل و الفيل و لكنه لم يستطع أن يستأنس الثعبان مثلا... إن الله قد ترك في الكون بعض المخلوقات منطلقة لا يستطيع الإنسان استئناسها حتى يعلم الإنسان أن كل ما ذللــه له الله إنما هو مذلل للإنسان بإرادة الخالق.
((‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)) كأن الله قد ترك بعض الوحوش بغير استئناس حتى يعلم الإنسان فضل الله عليه في استئناس بعض الحيوانات..و ذلك حتى لا يغتر الإنسان.. فإذا أقبل على العمل قائلا ( بسم الله الرحمن الرحيم) فهو يحس إن كل شيء منفعل له باسم الله الخالق الذي خلق كل شيء... أما الكافر فقد يأخذ عائد العمل و قد لا يأخذ , و لكنه لا يحس باليقين الإيماني الذي يحس به المؤمن. إن المؤمن يعرف أن الحق أطلق في الكون نواميس و قوانين هو الذي يحدد لها نظامها,, وقد يخرق الله القوانين و النواميس ليتبين الإنسان أن الله هو واضع القوانين و هو القادر على إيقافها و التحكم بها.
لكن الإنسان إذا ما فعل شيئا لا يملك السيطرة عليها.. مثال ذلك المطر.. قد ينزل في مواعيد ثابتة في بعض البلاد .. و لكن قد يأتي وقت و تصاب هذه المناطق بالجفاف.. و ذلك حتى يتذكر الإنسان عموم قدرة الله في المنح و المنع.. هكذا نعرف كلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) و لها مدلول في الكون ..إنها اعتراف من العبد المؤمن بأن الله هو مالك الأسباب..عليه نعتمد و نعمر الكون , و هو مالك القوانين ’ المسيطر على كل شيء . و لنضرب مثلا آخر.. إننا نرى البشر عندما يتزوجون ,,فقد يهب الله للزوجين بنين و بنات. و قد يهب للبعض ذكوراً فقد. و قد يهب للبعض إناثاً فقد. و قد يجعل البعض عقيماً.
و يصور الله جلت قدرته هذا الأمر في قوله تعالى : ((لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ, أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)) و هكذا يوضح لنا الحق ناموسه في الخلق . إنه الذي يأمر بالتزاوج , و هو الذي يجعل ثمار هذا التزاوج أطفالاً من الإناث أو أطفالا من الإناث و الذكور أو من الذكور فقط أو يجعل من يشاء عقيماً.
و يوضح لنا القرآن الكريم: بالأمثال أن الله قد يخرق النواميس. فها هي ذي قصة النبي زكريا.. الذي بلغ الكبر و تقدم به العمر و امرأته عاقر فيهب الله لهما ابناً و هي يحي . و ها هي ذي قصة السيدة مريم.. العذراء التي كفلها زكريا.. و معنى كفلها أي أنه كان المسؤول عن رعايتها و طعامها و شرابها. و دخل عليها النبي زكريا ذات مره, فوجد عندها بعض الرزق فسألها ( أنى لك هذا) أجابت ((قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)) و كأن الله لا يضرب لنا المثل بخرق الناموس في مسألة عطاء النبي زكريا ابناً إلا ليعلمنا إنه قادر. و كأن الحق سبحانه و تعالى عندما جعل النبي زكريا يسأل مريم البتول عن الرزق الذي وجده عندها.. إنما ليعلمنا كيف نصون أنفسنا من أي شيء لا يأتي من عند الله ..ذلك أن فساد أي مجتمع يأتي من عدم سؤال الحاكم فيه للمحكومين ( من أين لكم هذا؟) ينطبق ذلك على الأسرة الصغيرة و المجتمع الكبير.
فإذا ما سأل الأب ابنه عن أي شيء جديد لا يملكه الابن و لم يشتره له الأب و قال الأب للابن: - من أين لك هذا؟ فإن على الابن أن يعلم أن هناك رقيباً عليه فلا يسلك طريق الشر لينال به بعض الخير لنفسه و يعطي المجتمع شرور العمل..و الأم عندما نرى ابنتها ترتدي شيئا ليس من استطاعتها شراؤه فإن عليها أن تسأل ابنتها ( من أين لك هذا؟) إن الأم عليها أن تعلم ابنتها أنه يجب على الإنسان ألا يعيش إلا في حدود شرفه و ناتج عمله.
و الزوجة عندما تسأل الزوج عن المال الذي يأتي به..و هل هو من حلال أو حرام..فإنها تذكر الزوج بأن المال الذي يجب أن يدخل البيت لا بد أن يكون حلال المصدر.. عندئذ لا يندفع الزوج إلى ما يغضب الله. إن فساد المجتمع إنما يأتي من تعطيل : من أين لك هذا؟ و نعود إلى استيعاب المغزى الإيماني من إيضاح الله لقدرته .. وهب الله نبيه زكريا طفلاً و بلغ منه الكبر عتياً و كانت امرأته عاقراً.
و يدخل نبي الله زكريا على مريم البتول في المحراب فيجد عندها الطيب من الرزق فيسألها ((قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)) فتجيب ((قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)) و الترتيب القرآني يوضح أن زكريا نبي الله عندما سمع ذلك القول من مريم دعا ربه أن يهبه غلاما و ينال النبي زكريا ما تمنى و يهبه الله الغلام و يسميه يحي و لنتأمل الترتيب القرآني في تلك المسألة ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ, فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) إننا نفهم من الترتيب القرآني أن أم مريم-أمرأة عمران- نذرت ما في بطنها لله ..فأعطاها الله مريم التي نشأت على الورع و التقوى و السلوك الحسن. و كان زكريا يكفلها أي يأتي لها بالطعام و الشراب و هي في المحراب.. لكن نبي الله زكريا يجد الرزق فيسألها عن مصدره فتجيب إنه من عند الله الذي رزقه في كل حساب . فيسأل زكريا الله و هو في المحراب أن يهبه غلاماً فتجيبه الملائكة بأن لله يبشره بغلام اسمه يحي و يكون صادقاً مصدقاً و نبياً من الصالحين. و لنا أن نتساءل لماذا استجاب الله لدعاء زكريا و هو في المحراب مع مريم..؟
كأن الله يريد أن يهيئ مريم للتجربة التي ستخوضها بعد قليل .. التجربة التي لم تتعرض لها امرأة من قبلها و لن تتعرض لها امرأة من بعدها في ذلك العالم , كأن الله أراد أن يؤنس بشريتها,,فيجري على لسانها حكم الله بأنه القادر على رزق من يشاء بغير حساب إنها تتعرف على اتساع قدرة الله .. و كأنها تستعد دون أن تدري للتجربة الصعبة إن الله يجري أمامها أحداث رزق نبيه زكريا و امرأته العاقر..ميلاد النبي يحيى و ذلك حتى تستعد للتجربة الهائلة : إنجاب المسيح عيسى ابن مريم.. و يكرر الله نبأ اصطفائه لمريم مرتين في آية واحدة ((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ)) و اصطفاء الله لمريم ذلك اصطفاء الأول هو اصطفاء قيمي أمره يختص بالسلوك التقي و الإيمان الخالص .. و هي تدخل قي دائرة من يصطفيهم الله من البشر القانتين العارفين لله و المؤمنين بقدراته. ثم يأتي الإصطفاء الثاني ..الذي يهيئها للتجربة الفريدة.. تجربة إنجاب عيسى ابن مريم نبي الله الذي يكلم الناس في المهد و ينطق الحكمة و يحيى الموتى بإذن ربه, و يبرئ الأكمه و الأبرص .
و هذا الاصطفاء الثاني و هو تمييز مريم على نساء العالمين بأنها ستلد دون ذكر.. و قد جاء التشخيص من الله بأن تمثل لها الملك في قوله تعالى: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا, فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا, قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا, قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)) إنها تعرف أنه لم يمسسها بشر و لكنها تؤمن أن كل ما يحدث هو بإرادة الله و التشخيص للروح هو من أمر الله بأن يتمثل لها بشراً سوياً ,, و كأن الله عندما يرتب كل الوقائع لتجث معجزته شاء أن ترزق مريم بغلام من المسيح. و كأن تشخيص الروح , و هو من أمر الله ,,إنما ليضع الناس أمام إرادته و كأن التشخيص إيضاح من الله أن قوانينه تنفذ و أن تلد مريم دون أن يمسسها بشر و ينفخ الملك روحاًُ من الله كأي روح ينفخها الله من أي إنسان و تحمل مريم عيسى و تلده معجزة من معجزات الله,, و كأن الله يريد بذلك التشخيص أن يؤكد لنا أن مثل هذه المعجزة الفريدة لا تتكرر أبداً .. و ذلك على عكس بعض ما أراده الله من وقائع رواها القرآن الكريم و لا تشخيص أو تحديد فيها..مثلما روى القرآن الكريم عن أهل الكهف ,,لم يحدد الله زماناً أو مكاناُ أو عدداُ ..و أمر النبي ألا يستفتي من أمر عددهم أحداً ذلك أن المغزى من قصة أهل الكهف هو المهم. و ليس المهم هو العدد أو المكان أو الزمان, إن المغزى من قصة أهل الكهف أن الله قادر على أن يعلق حياة هؤلاء المؤمنين به في زمن كافر بالله.. ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) إن المغزى من القصة أن الله يخبر المؤمنين به حكاية بعض من أهل الكهف الذين عاشوا وسط قوم المشركين فزادهم الله يقيناً بالإيمان و التوحيد بالله و أنه حقق لهم و بهم معجزة ,,فقد ظلوا في الكهف ثلاثمائة و تسع من السنوات و علق الله حياتهم أى حفظهم منذ لحظة نومهم على ما هم عليه إلى أن بعثهم مره أخرى في الحياة برهاناً و دليلاً على قدرته.
و يضرب الله المثل بالذين كفروا و امرأة نوح.. إنه لا يذكر اسمها . إنها امرأة نبي تخلت عن عقيدتها و ما استطاع نوح و هو النبي أن يهديها و كذلك امرأة لوط لم يستطع نبي الله لوط أن يهدي زوجته فدخلت كل منهما النار ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)) إن امرأتين من زوجان اثنين من الأنبياء كانتا في عصمة رجلين يهديان إلى الإيمان لكن المرأتان لم تؤمنا فلم يغفر الله لهما زواجهما من النبيين نوح و لوط و دخلت كلتهما النار مع الكافرين.
و يضرب الله مثلاً آخر بامرأة مؤمنة هي امرأة فرعون , زوجها ادعى لنفسه الألوهية لكنه عجز عن إقناعها بذلك, آمنت بالله فقط فدخلت الجنة . ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) هنا يحكي الله عن امرأة عرفت الله ولم تخضع لقهر فرعون لها..إن عدم التحديد هنا يوضح أن المثل يمكن أن يتكرر.. أما بالنسبة لمريم فقد حددها الله لأن قصتها لن تتكرر. إذن.. فالحق – سبحانه تعالى- حين يبدأ القرآن بقوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فهذا تنبيه لكل إنسان يسمع بأن الله هو المتحدث بذلك الكلام .
و رسولنا صلى الله عليه و سلم يقول: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر) و معنى الأبتر هو مقطوع اليد. أي أن أي عمل لا تبدؤه باسم الحق فهو ناقص. ذلك أننا حين نبدأ أعمالنا باسم الله فإننا نحمى أنفسنا من الغرور ...و نعرف أن الله هو الذي سخر لنا كل ما في الكون ليكون متفاعلاً مع قدراتنا تلك القدرات التي وهبها لنا الله .
و الله يمنحنا ثواباً في الدنيا على عملنا و ثواباً في الآخرة على نفس العمل. و عندما ننسى أن نذكر الله اسم الله في أي عمل فنحن ننقص من عطاء الله لنا.. و قد نأخذ في الدنيا أجر العمل.. لكننا نحرم أنفسنا من عطاء الآخرة , إن الإنسان المؤمن حين يقدم على أي عمل و يبدؤه بــ (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فلابد أن ذلك العمل يرضى الله . ذلك أنه ليس من المعقول أن يقبل الإنسان على عمل قد يغضب الله و يقول في بدايته بسم الله الرحمن الرحيم ,, و على سبيل المثال لن يقول شارب الخمر في بداية احتسائه باسم الله لأنه سوف يخشى الله و سيعرف أن هذا العمل من المعاصي التي حرمها الله. إذن .. فإذا ما تعود المؤمن أن ينطق (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فإنه سيختار أعماله في ضوء ما أجازه الله و أباحه الحق الرحمن.. و عندما نتأمل (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فلسوف نجد اسم المعبود و هو الله الذي حدد لنا المحدود و التشريع و التكليف بــ (افعل) و ( لا تفعل) و حتى بالنسبة للعاصي فإن الله يطلب منه أن يستفتح أعماله بــ (( بسم الله الرحمن الرحيم)) ذلك أن الخالق لا يتغير على مخلوقاته .. و العاصي واحد من مخلوقات الله , ,لذلك يؤكد الله صفات جلاله و جماله: إنه رحمن رحيم.. فالله حين يشرع العقوبة على أي معصية لم يشرعها انتقاماً من مخلوقاته , إنما شرع العقوبة ,, لأن المعصية قد تقع من الإنسان .وإن الله يغفر لمن يشاء فحين نتذكر أنه الرحمن الرحيم فإن إقبالنا على المعصية يقل و إقبالنا على تجنب المعاصي يزداد.. فالله رحمن رحيم,, و عندما نتأمل معنى (( الرحمن)) فإننا نجدها كلمة مشتقة من (( الرحم)) و (( الرحم)) هو مكان الجنين أثناء وجوده في بطن الأم حيث يتنعم الجنين بالراحة و الأمان.
هكذا يحنو الخالق على المخلوق.. و لذلك يقول الحق الرحمن في الحديث القدسي: (( أنا الرحمن و من الرحم شققت لها من أسمي من يصلها أصله و من قطعها أقطعه فأبته)) إن الله يعطف على عباده و يأمرهم بأن يصلوا الرحم لأنه أسم من صفات الله و أسمائه الحسنى ,, إذن .. الله يعطف على عباده حتى العاصي منهم ,,لأن المعصية لها عقاب ...لأن الله أيضاً أذن أن تقع و إن كان يكره أن تقع لأن الله لا يقع في ملكه إلا ما يريد و هو يغفر للتائب عنها. لذلك فالعاصي و المؤمن معاً..كل منهما عليه أن يبدأ أي عمل ذي بال بــ (( بسم الله الرحمن الرحيم)) حتى ينال ثواب الدنيا بأن لا يقدم على عمل إلا مما يرضي الله و ينال ثواب الآخرة لأنه أطاع الله في الدنيا و قاوم الغرور و تاب إلى الله عن المعاصي .. إن الله رحمن رحيم و صفاته لا تتأرجح بين القوة و الضعف ..إنه رحمن رحيم لا يتغير على عباده ...إنما عباده هم المتغيرون .. صفات الخالق عز وجل تسع المؤمن و العاصي.. و صفات الرحمن أنه حليم يسمح للعاصي بالتوبة و يمهل الكافر حتى يؤمن ,,لذلك يقول الحق جل و علا.. ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) أي: أن العبد إذا ما فعل العمل الصالح فله الأجر و الثواب, و أما من أساء في عمله فإثمه على نفسه ,, و الله لا يظلم عباده أبداً .. هكذا الكمال الرباني إنه القادر الذي لا تحد قدرته حدود.. لذلك عندما نضع الله في بالنا و نذكر اسمه قائلين (( بسم الله الرحمن الرحيم )) في أول كل عمل نبدؤه فإننا بذلك نجعل للعمل أجرين أجرا في الدنيا و ثوابا في الآخرة .. حتى عندما يأتي الرجل امرأته و هو ينوى إعفافها و الذرية الصالحة ..فهذا أيضاً يتلقى عليه المؤمن الثواب.. ذلك أن الرجل عندما يأتي زوجته فهذا حلال و من أجل ذلك يأتيه الثواب لأنه لو فعل ذلك خارج بيته مع امرأة أخرى لتلقى العقاب..
و لذلك فعندما نتأمل قول الرسول و هو يأمرنا بأن نقول (( بسم الله الرحمن الرحيم)) قبل أي عمل ذي بال.. عندما نتأمل ذلك فإننا نقف عند ذي بال ...ما معناها؟ إن معناها إن العمل الذي تفكر فيه قبل أن تبدأه . ذلك أن كل ما يشغل البال غالباً له ثلاث نسب : نسبة ذهنيه: و مثالها عندما يعطش الإنسان ..فإنه النسبة الذهنية التي تأتي لخياله هو كوب الماء ..فإذا ما قام الإنسان و طلب من أحد غيره كوب ماء ,, عندئذ تصبح النسبة (( نسبة كلامية)) هي: - اعطني كوب ماء.. و عندما يأتي كوب الماء .. فهذا يدخل تحت النسبة الثالثة و هي (( النسبة الخارجية )),, و لنا أن نلاحظ أن النسبة الخارجية نشأت من النسبيتين السابقتين عليها .. النسبة الذهنية و النسبة الكلامية.. هكذا نفهم الأمر الذي تنطبق عليه النسب الثلاث ,,إنه الأمر ذو البال أي الذي يشغل التفكير.. و لهذا فإن الله يمنحنا في مثل هذا العمل القدرة الكاملة على إتقانه و أن ننال عليه أجر الدنيا و ثواب الآخرة فعندما نقبل على العمل المهم بالنسبة لنا و نقول (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فإننا نأخذ بركة اسم الله في تسخير ما نعجز عن تسخيره و نأخذ شجاعة الإقبال على العمل.. و فوق كل ذلك فإننا نأخذ ثواباً في الآخرة . هكذا يعلمنا الحق أن نبدأ (( بسم الله الرحمن الرحيم )) فما بالنا و نحن ندخل على تلاوة كتابه الذي يضم المنهج و المعجزة في آن واحد.. إننا نقبل عليه مستعيذين بالله من الشيطان . إننا نقبل على كتاب الله بـــ (( بسم الله الرحمن الرحيم )) لتضيء أعماقنا بقابلية الفهم الإيماني عن الله . أسأل الله أن يوفقنا في كل ما نأتي , و في كل ما ندع . من كتاب الطريق إلى القرآن محمد متولى الشعرواي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق